محمد بن القاسم الثقفى.. مأساة قائد فى التاريخ الإسلامى.. من النصر إلى الموت
يعد محمد بن القاسم الثقفى، أحد قادة الفتح الإسلامى فى العصر الأموى، وُلِد سنة (62 هـ = 681م).
اسمه بالكامل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، كان أبوه القاسم بن محمد ممن جاء لأرض العراق عند الحرب بين ابن الزبير رضي الله عنه وعبد الملك بن مروان، فأقام بها وهو ابن عم الوالي الشهير والمثير للجدل بشدة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي وقعت عينه على ابن عمه الصغير “محمد بن القاسم” فبدأ في تقريبه وإسناد بعض المهام إليه.
وكانت بلاد السند (باكستان الآن) هدفًا لحركة الفتح الإسلامي أيام الخليفة الراشد “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، فلقد أرسل عامله على البحرين “عثمان بن أبي العاص” جيشًا بقيادة أخيه “الحكم” إلى ساحل الهند عند مدينة “تانة” وذلك سنة 15 هجرية ثم إلى مدينة “بروص” ثم إلى “خور الدبيل” وحقق خلالها عدة انتصارات، ولكن الخليفة خاف من مواصلة الغزو خوفًا على المسلمين من بُعد الديار، وكان ذلك أيضا رأي أمير المؤمنين “عثمان” رضي الله عنه، فلما تولى “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه الخلافة أرسل الحارثة بن مرة العبدي إلى السند فأغار على أطرافها وظفر منها وظل بها حتى استشهد في عهد “معاوية” رضي الله عنه سنة 42 هجرية.
حدث تطور كبير في غزو السند أيام “معاوية بن أبي سفيان” حيث أمر القائد الشهير المهلب بن أبي صفرة بغزو السند، ثم غزاها عبد الله بن سوار العبدي، ثم سنان بن سلمة الهذلي ففتح “مكران” ومصرها وأسكنها العرب، وهذا أول جزء من غربي البنجاب يدخل في دولة الإسلام، وبعد ذلك فصل المسلمون بين بلاد الهند وبلاد السند، فلما تولى الحجاج الثقفي جعل من أولوياته فتح هذا الثغر العظيم خاصة بعد أن قتل عامله “محمد بن هارون النمري” في قتاله مع ملك السند “داهر” وقد رأى أن هذا الفتح لن يتم إلا بجيش قوي ووقع الاختيار على “محمد بن القاسم” وكان ذلك سنة 89 هجرية.
كان لمحمد بن القاسم في رحلته للفتح المبارك هدفان:
الأقرب: الانتقام من “داهر” ملك السند الوثني الذي قتل المسلمين بأرضه وآخرهم “محمد بن هارون النمري”.
والأبعد: فتح بلاد السند وما ورائها من بلاد الهند ونشر الإسلام في هذه الربوع الشاسعة.
تحرك محمد بن القاسم بجيشه القوي إلى “مكران” فأقام بها عدة أيام يستجمع قوته بعد سير طويل، وذلك لفتح مدينة “الدبيل” أحصن مدن السند، وفي الطريق إليها فتح مدينة “قنزبور” و”أرمائيل” ثم واصل السير حتى نزل على مدينة “الدبيل” وذلك يوم جمعة.
ووافاه الأسطول بآلات الحصار، ومنها المنجنيق الكبير المشهور باسم “العروس” وكان يلزمه (500 رجل) لتشغيله، وضرب “محمد بن القاسم” حصارًا شديدًا على المدينة الحصينة، واستمات الهندوس في الدفاع عن مدينتهم.
وبعد فتح مدينة “الدبيل” أحصن مدن السند، واصل محمد بن القاسم سيره، فكان لا يمر على مدينة إلا فتحها. واستطاع محمد بن القاسم أن يبهر الهندوس بشخصيته القوية الحازمة، وقد تعجبوا من شجاعته وحسن قيادته لجيش كبير وهو دون الثامنة عشرة، وبالفعل أسلم عدد كبير من الزُّط وهم من بدو الهنود وانضم منهم أربعة آلاف رجل يقاتلون مع محمد بن القاسم وكان لهم أثر كبير في القتال لخبرتهم بالبلاد ومعرفتهم للغة الهنود.
كانت الأخبار قد وصلت إلى ملك الهند الوثني “داهر” فاستعد للقاء المسلمين بجيوش كبيرة مع سلاح المدرعات الشهير وهم الفيلة، وقد داخله الكبر والعجب لضخامة جيوشه واستخف بالمسلمين لقلتهم، ولكنه فوجئ بالإعصار الإسلامي يعبر نهر “مهران” الفاصل بينه وبين المسلمين، ويجد “داهر” الذي كان على ظهر فيل كبير نفسه وجهًا لوجه مع محمد بن القاسم وجنوده، ويقتتل الفريقان قتالًا مهولًا لم تشهد مثله أرض السند من قبل، ويرى “داهر” جنوده صرعى من حوله تتخطفهم سيوف المسلمين، فنزل من على ظهر فيله المنيع ويقاتل بنفسه حتى يأتيه قدره المحتوم ويقتله المسلمون، وبمقتله أدرك المسلمون ثأرهم وانفتحت أمامهم بلاد السند على مصراعيها.
بعد مقتل “داهر” واصل محمد بن القاسم سيره ليحقق الهدف الأكبر والأبعد كما قلنا بعد أن انتقم من عدو الإسلام “داهر” ففتح مدينة “راور” ثم “رهماناباذ” ثم استسلم إقليم “ساوندري” وأعلنوا إسلامهم ثم “سمند” ثم فتح محمد بن القاسم مدينة “الملتان” وذلك بعد قتال عنيف، إذ كانت معقل البوذية بالسند وغنم منها أموالًا طائلة حملت كلها إلى الحجاج وقدرت بمائة وعشرين مليون درهم.
بدأت فصول مأساة ومحنة محمد بن القاسم عندما توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك وذلك سنة 96 هجرية، وتولى مكانه أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان شديد الكره للحجاج بسبب جرائم الحجاج وسفكه لدماء الكثيرين لأقل شبهة، فلما تولى الخلافة قام بتعيين واحد من أشد خصوم الحجاج وهو “صالح بن عبد الرحمن” أميرًا على العراق فقام هذا الرجل بعزل كل رجال الحجاج من مناصبهم ومنهم بالقطع محمد بن القاسم أمير السند وفاتحها.
ولما وصل نبأ العزل لمحمد بن القاسم حاول البعض إقناعه بالعصيان والانفراد بهذه البلاد البعيدة عن مركز الخلافة، خاصة أن جنوده يحبونه وكذلك من أسلم من أهل السند والهند، وسبق أن ثار بهذه البلاد ثائران من العرب، هما: محمد، ومعاوية، ابنا الحارث العلافي، ولكن وجود “داهر” حال دون انفرادهما بهذه البلاد، وحاولوا إقناعه بأنه مظلوم ولا ذنب له، وتخويفه من صالح بن عبد الرحمن، ولكن محمد بن القاسم وافق على قرار العزل.
ويقال إن “صيتا” ابنة “داهر” قد وقعت في الأسر بعد مقتل أبيها، فتقدمت للوالي الجديد “يزيد بن أبي كبشة” بشكوى ادعت فيها أن محمد بن القاسم قد اغتصبها بالقوة بعد وقوعها في الأسر.
ولأن التهمة كبيرة، قرر الوالي الجديد القبض على محمد بن القاسم وإرساله إلى والي العراق “صالح بن عبد الرحمن” للتحقيق، وبالفعل حمل محمد بن القاسم مقيدًا بالأغلال إلى العراق.
وكان والي العراق الجديد “صالح بن عبد الرحمن” شديد الكراهية والبغضاء للحجاج الثقفي، ذلك لأن الحجاج قد قتل آدم أخا صالح، فأراد صالح أن يدرك ثأره من الحجاج وذلك بالانتقام من أقربائه.
قام صالح بن عبد الرحمن بحبس محمد بن القاسم في سجن مدينة واسط الذي طالما زج فيه الحجاج خصومه لأدنى شبهة، وبنفس آلات التعذيب أمر صالح بتعذيب محمد بن القاسم حتى يعترف هل ارتكب هذه الجناية الشنيعة، وظل فى هذا الشأن حتى مات.