عربي ودولي
30
فلسطيني يستذكر شهداء مجزرة كفر قاسم
رام الله – محمـد الرنتيسي
لشهر أكتوبر خصوصية ومكانة تاريخية عند الفلسطينيين، يكاد لا ينازعه عليها أي من الشهور، فهو شهر «الزيتون» والبذل والعطاء للأرض، لكن جرائم الاحتلال التي لا تتوقف يوماً، بل تمضي في وحشيتها وجنونها وعربدتها، جعلت من هذا الشهر مصدراً لجرح لا يندمل، وأوجاع تبدد أحلام الفلسطينيين، بفعل رصاص الغدر المنبعث من سلوك همجي، لا يقدم عليه إلا جيش تسلح بالإجرام، وتجرد من كل القييم والأخلاق، واستعاض عنهما بالتوحش. في أكتوبر الدامي، تتوقف ذكريات الفلسطينيين، وتتناثر أحلامهم، مع تناثر قطرات دمهم المسفوك من قبيا وكفر قاسم إلى القدس وغزة، بفعل رصاص الجبن والخسة، ومجازر اعتادوا عليها في هذا الشهر، تختزل سادية الاحتلال الصهيوني، وتذكّرهم في كل عام، بغطرسته وإجرامه.
مجزرة قبيا:
في 14 أكتوبر العام 1953، شنت العصابات الصهيونية، هجوماً عنيفاً على قرية قبيا الواقعة غربي مدينة رام الله، فنسفت 56 منزلاً، وقتلت 67 مواطناً من القرية، فضلاً عن عشرات الجرحى، اختلطت دماؤهم بزيت الزيتون، وكان من بين الضحايا أطفال وشيوخ ونساء، بعضهم قتل برصاص العصابات الغازية، وآخرون استشهدوا تحت الركام، تماماً كما يجري في غزة اليوم.
وهدمت قوات الاحتلال في تلك المجزرة، مسجد قرية قبيا، ومدرستها وخزان مياهها، وشارك بها ما يزيد عن 600 جندي إسرائيلي، مدججين بأحدث الأسلحة، وقد مهدوا لهجومهم هذا، بسيل من قذائف المورتر وقنابل الهاون على منازل القرية.
مجزرة كفر قاسم:
بعد ثلاث سنوات على مجزرة قبيا، وفي ليلة 29 أكتوبر العام 1956، كانت عصابات الاحتلال على موعد مع مذبحة رهيبة جديدة، وهذه المرة في قرية كفر قاسم العربية المحتلة منذ العام 1948، فعشية العدوان الثلاثي على مصر، فرضت قيادة جيش الاحتلال حظر التجول على عدة قرى عربية، ومن بينها كفر قاسم، وكانت التعليمات للجنود بأن يكون حظر التجول حازماً، من خلال إطلاق النار على المخالفين، وليس اعتقالهم، وتوالت التعليمات: «من الأفضل عدد من القتلى». كان أهالي كفر قاسم، منخرطون في موسم الزيتون، ولدى عودتهم من حقولهم، كانت عصابات الاحتلال الإجرامية بانتظارهم، فعاجلتهم بإطلاق الرصاص عليهم، ليرتقي جراء ذلك 49 شهيداً وأضعافهم من الجرحى، ولم تبق عائلة في القرية إلا وأخذت نصيبها من الضحايا، وكان أن أبيدت عائلة بأكملها، قوامها 14 فرداً في هذه المجزرة الوحشية، لترتوي أشجار الزيتون في كفر قاسم بدماء الشهداء.
مجزرة الأقصى:
في 8 أكتوبر العام 1990، وفي خضم الانتفاضة الأولى، وبينما كان المواطنون الفلسطينيون منهمكين في قطف ثمار الزيتون، كانت عصابات الاحتلال الصهيونية، ترتكب مجزرة دامية ومدبرة، بحق المواطنين المرابطين في ساحات المسجد الأقصى المبارك، لحمايته من العصابات الصهيونية المسمّاة «أمناء الهيكل» التي كانت يومها تحاول اقتحام الحرم القدسي الشريف، لوضع حجر الأساس لهيكلها المزعوم.
تنادى الفلسطينيون في ذلك اليوم، لحماية أولى القبلتين، والدفاع عنه، لكن سلطات الاحتلال كانت تبيت للجريمة، حيث سمحت بدخول المصلين بأعداد كبيرة (على غير عادتها)، وما هي إلا ساعات، حتى بدأ جنود الاحتلال بإطلاق الرصاص الحي باتجاههم، وتعالت أصوات التكبير في المسجد وساحاته، واندلعت معركة غير متكافئة.. الجنود الصهاينة يطلقون الرصاص الحي، والشبان يردون عليهم بالحجارة، لتغوص ساحات المسجد بالدماء الزكية التي انتشرت على مساحة واسعة، وافتدي الأقصى في ذلك اليوم بدماء 22 شهيداً، وأكثر من 200 جريحاً، وكان يوماً مشهوداً آخر من أيام أكتوبر، وموسم العطاء والتضحية للأرض.
مجازر غزة:
واليوم، تتكرر مجازر الاحتلال في غزة، فتتعانق دماء الغزيين مع دماء قبيا وكفر قاسم، في يوميات القتل والإجرام، التي يتلذذ من خلالها جيش الاحتلال، مدعوماً بآلة الحرب الإسرائيلية والأمريكية، بدم الأطفال والشيوخ والنساء، فتتوالى قوافل الشهداء تترى، دون أن يقتل هذا المشهد الإجرامي الدامي، إحساس الفلسطيني بالحياة، أو الإبقاء على الثورة في داخله، والحيلولة دون إرباك العلاقة بين الأرض الفلسطينية الحانية، ودماء الشهداء، أصحابها الشرعيين. في غزة، يصر الفلسطينيون على هزيمة أعداء الأرض، وشجرة الزيتون، ربما لأنها شجرة معمّرة، عاصرت كل الأقوام التي غزت فلسطين، وسرعان ما لفظتهم وطردتهم.. يتمسكون بمقولة شاعر القضية الفلسطينية محمود درويش: «لو يعرف الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً.. سنظل في الزيتون خضرته وحول الأرض درعاً».. ستعود غزة للحياة، أما قطعان الاحتلال وعصاباته، فهم «عابرون في كلام عابر».
مساحة إعلانية