ثقافة وفنون
36
أجرى الحوار: طه عبدالرحمن
تمتلك الشاعرة والكاتبة القطرية سميرة عبيد مخزونا لغويا، وموهبة شعرية، وأدوات سردية، كل هذه الأدوات مكنتها من أن تصبح شاعرة وقاصة وباحثة في الوقت نفسه، بجانب مواهب أخرى، الأمر الذي ترجمته في إصدار العديد من الدواوين الشعرية، والمجموعات القصصية، بخلاف إصداراتها البحثية.
اللغة التي تسقطها على أعمالها، استقطبت المترجمين، فتُرجمت بعض أعمالها إلى لغات أجنبية، ما شكل نقلة نوعية أخرى في مسيرتها الإبداعية، لتنطلق من خلالها إلى آفاق عالمية أرحب، بعد حضورها اللافت بالثقافة المحلية. في حديثها لـ الشرق ، تتناول ترجمة مجموعتها القصصية «وشم هارب من الطين»، وأهمية مثل هذه الترجمات، وما إذا كانت تضع معايير بعينها لترجمة أعمالها، بالإضافة إلى تناول دور المبدع عند وقوع الأزمات، علاوة على أهم ما يميز أجناسها الأدبية، على خلفية حضورها الشعري والقصصي، إلى غير ذلك من محاور، طرحت نفسها على مائدة الحوار التالي:
في ظل ترجمة مجموعتك القصصية «وشم هارب من الطين»، برأيك، ما أهمية مثل هذه الترجمات بالنسبة للمبدع؟
الترجمة تدفعنا إلى التفكير في المسافة بين ما نكتبه وما يؤول في الثقافات الإنسانية التي تعبر إليه أحلامنا، فهي تتوشح بلباس المجاز لكن لا أظن أن النصوص التي نكتبها هي التي تسافر في تشكيلاتها اللغوية، إنها حواسنا وهي ترتدي إحساسات إنسانية في تركيب لغوي. وبقدر ما تقترب من اللغة بقدر ما تعيد تشكيل الهوية الشعرية الخاصة، فهي ليست الخيانة في أبهى صورها، بل هي التأويلات المفتوحة.
ولهذا، وأثناء كتابة «وشم هارب»، كنت واعية في التفكير بمنطقة الاحتمالات بين حكاية النص وحكايات الآخرين ما دام الأمر يتعلق بتفاصيل إنسانية شائكة تجعلنا نستطيع أن نظهر ملامح في صيروراتها المتعددة وهي تتلاشى أمام مساحات الواقع بعنفه وقساوته.
بوابة العالمية
وهل تعتقدين أن الترجمات عموماً هي بوابة عبور أعمال المبدع إلى العالمية؟
العالمية في نظري تبدأ من المبدع نفسه ومدى قدرته على تطويع المحلي واكتشافه من جديد عبر لغته الخاصة وهو يقبض على ارتباكات الداخل وتمزقات النفس والحق في كتابة الحلم من دون التفريط في جماليات الكتابة وتحويل الهش إلى نص لا يقرأ فحسب ولكن يترك أثراً إنسانياً كما فعل «عنترة» حين حوله الحب إلى كائن مفرط في إنسانيته وهو الفارس الذي كان بإمكانه أن يقلب القبيلة رأسا على عقب، وهو الأمر نفسه حين نجح «كافكا» في جعلنا نكتشف القبح الداخلي للإنسان وهو يرى أنه مجرد حشرة بسبب تخلي من أحبهم بصورة جعلت من جثته مجرد قمامة. إنه الإنسان الكائن المركب ولهذا، فالترجمة لم تعد تصنع أدباً عالمياً، ما دامت «التابوهات» لم تعد تضفي العالمية على النص الأدبي العربي.
إلى أي حد تأثرت قصائد الشاعرة سميرة عبيد بإنتاجها القصصي؟
كل كلمة أكتبها تمثل جانباً من وعي ما بتاريخ تشكل الهويات في شخصياتي القصصية، قد أتعاطف مع إحداها وفي الوقت نفسه أحزن بمصير لم يكن منسجماً مع هشاشتي كشاعرة يربكها المجاز والانزياح. لكنني أعد كل كتابة لا تترجم حواس ورؤية الإنسان إلى الوجود كتابة منافقة لا يمكن أن تتسم بالخلود، فالكلمة موقف وحياة وأثر جميل لا يمحى.
دور المبدع
بعد مرور فترة ليست بالقليلة على تداعيات «كورونا»، وغيرها من الأزمات، هل تعتقدين أن مثل هذه الأزمات يمكن أن تشكل مخزوناً لدى الكاتب فيسقطه لاحقاً على إنتاج أعماله؟
كورونا كانت تجربة إنسانية عمقت هشاشة الإنسان مثلما أشرت سابقا، فقد جعلتنا نعيش تجربة الخوف، وهو هنا لا يرتبط بسؤال الموت ولكن بالمجهول حين يعبر الإنسان عن قلقه تجاه الحدود والبحث عن العزلة على نحو اضطراري. وأظن أن الشاعر وجد لحظة تاريخية لكتابة هواجسه وتنظيم علاقته بالفضاء حتى ينتج نصوصا بحجم قوة العزلة، فقد كان الوباء تفكيكاً لمنطق الحدود الوهمية بين الجغرافيات والثقافات. آلمتنا لأنها تركت جروحا حين ودعنا خلسة من نحب أن نلتقي بهم في شوارعنا التي كانت تتحول إلى وطن للأشباح.
ولابد من مسافة بين الحدث كما هو ماض في زمنه، وبين تحويله إلى نص أدبي أو فني، ولهذا، المبدع في حالة بحث دائم عن الحق في الحلم، والكتابة عبر الأحلام، التي تقربنا أكثر من تلك الهواجس التي سكنتنا وبالتالي تشكل رافداً من روافد الكتابة، لربما «كورونا»، يمكن أن نفكر في أعراضها بعد أن تكتمل الصورة؛ الصورة التي يمكنها أن تكشف عن هوامش ما وقع قبل أن يتحول العالم إلى كائن شبه حي من وراء آلات التنفس الاصطناعية. هل نحن بخير الآن؟ أظن أننا لسنا كذلك.
كيف يمكن للمبدع القيام بدور توعوي تجاه المجتمع على خلفية مثل هذه الأزمات؟
المبدع الحقيقي ليس بوقاً ولا يمكن أن يكون بأي حال، الشاعر يعلمنا أن ننظر إلى الحياة من ثقب الحياة نفسها مهما اشتدت علينا المحن داخلها، لأنه هو بوصلة الحلم والحق في بناء عالم مواز.
وبرأيكِ، ما المتغير الذي يمكن أن ينعكس على الثقافة المحلية إزاء ذلك؟
لقد نظمت قطر أجمل كأس عالم، تعلمنا منه الشعر وقيم الحياة ويكفي أن «ميسي» رفع الكأس بلباسنا المحلي. أوليست هذه قصيدة نثر رفيعة؟!
معايير الترجمة
هل تضعين معايير معينة كشرط لترجمة أعمالك؟
من حسن حظي أنني أستطيع أن أتنقل بين أكثر من لغة، ولم تكن اللغات في تفكيري حاجزاً يحول بيني وبين الآداب العالمية، وأظن أن القصة القصيرة تفترض وجود توتر في بنية السرد القصصي، وهذا الوعي بقوة الحكاية وتمثيلات الشخصية ومساحات الواقع ودرجة التفكير في المحلي لا يمكن بأي حال أن تجعل المترجم يمارس استبداده ما دام هاجسه هو إيصال النص بصورة قريبة إلى متلق من ثقافة أخرى.
الشعر والقصة
أيهما أقرب إليكِ الشعر أم القصة؟
لا أفاضل بين الأجناس الأدبية وغيرها، أكتب حين أشعر بأنني ممتلئة بالوجع والخرس الإنسانيين، الموضوع هو من يفرض عليَّ شكل الكتابة، لا أنطلق في كتابتي من أشكال جاهزة. صحيح إن الشعر يقويني حين أصارع الكلمة وأعمل على تفتيتها لتتحول إلى قطع بلورية تشع منها أحلامي، وهي أحلامنا المشتركة في زمن التصحر الرقمي للمشاعر، ومع ذلك، تلبي القصة رؤيتي لما هو هامشي يقوض فهمنا السطحي للحياة على نحو خاص ومدهش. الشعر والقصة والآداب والفنون روح المبدع التي يتنفس بها ليروي لنا بعضاً من تأملاته في الكون والعالم والحياة.
مساحة إعلانية