عربي ودولي
84
منى الكرد.. فلسطينية جعلت من مونديال قطر نافذة للترويج لقضايا شعبها
رام الله – محمـد الرنتيسي
فيما تمضي دولة الاحتلال بكل المثبطات الممنهجة والمدروسة لاقتلاع المقدسيين من منازلهم، فإن على الضفة الأخرى من المواجهة، ثمة شباب فلسطيني يصرّ على الحياة، فيمضي بكل شجاعة وإقدام ودأب في مشروعه الوطني التحرري، وعلى كاهله تقع مسؤولية تحرير أرضه السليبة، وصولاً إلى إقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، والعيش بحرية وكرامة، في كنفها وغدها المشرق.
منى الكرد، شابة فلسطينية دأبت على مواجهة الاحتلال، فباتت نموذجاً فريداً لشريحة واسعة من الشباب الفلسطيني الذين تفتحت في وجوههم نوافذ العطاء وطاقات الشجاعة، رغم كل ما يكابدونه من ملاحقة ومطاردة، يمارسها جيش الإرهاب الإسرائيلي، بكل ما أوتي من بؤس وسادية، ظانّاً أن بإمكانه أن يقتل روح الأمل في نفوسهم ودواخلهم، لكن هيهات هيهات أن يحقق مبتغاه.
خرجت منى إلى الدنيا العام 1998 في حي الشيخ جراح بالقدس، ولأن المدينة المقدسة تسكن في سويداء القلوب، وفي العقول والمهج، فقد تفتحت عيونها على الوطن، ولم تكن تملك إلا عشق أرضه من النظرة الأولى، فوقعت في حبه وغرامه، وأصبحت أسيرة لهذا الحب الصادق والنقي لوطنها، والإنتماء لثراه الطهور، والتفاعل مع نبض شعبها حيثما كانت ساحة المواجهة، ولأن أطفال فلسطين ينضجون ويكبرون قبل الأوان، فقد حرقت منى مرحلة طفولتها مبكراً، ومرّت بها مروراً سريعاً، ووجدت من يعزّز في نفسها هذا السلوك الحافل بالوفاء، والتفاعل النقي مع قضايا شعبها وهمومه، وهل لها في ذلك غير أسرتها الكريمة، التي غرست فيها قيماً نبيلة وأصيلة، وهي في مقتبل العمر؟.
** تحمل هموم شعبها
استثمرت منى على نحو ذكي وحصيف، ما عايشته في سنوات الطفولة، من صمود أهالي حي الشيخ جراح فوق أرضهم وفي منازلهم، أمام محاولات الترحيل والتهجير القسري، فكانت الداعمة والمشجعة لعائلات الحي بأكملها، وما أن بلغت الثانية عشرة من عمرها، حتى بدأت بتوثيق اعتداءات سوائب المستوطنين وقوات الاحتلال على أهالي الحي، فشكّلت نموذجاً أصيلاً وفريداً لأطفال فلسطين، وأصبحت عدسة هاتفها النقال، نافذة نموذجية لأهالي الحي، يطيّرون من خلالها رسائل صمودهم إلى العالم، وغدت منى البوصلة التي تهتدي من خلالها وسائل الإعلام المختلفة، للوقوف على السلوك المشين والقبيح الذي يمارسه جيش الاحتلال في حي الشيخ جراح، المكبل بأصفاد المحتلين، فحرصت على تقديم ما يُشبع نهم الصحافيين والوفود المتضامنة.
وفي خضم منافسات المونديال القطري، لم تفوت الفرصة، فحملت منى هموم وآلام وقضايا شعبها، وطيّرت رسائل إلى العالم أجمع، من على مدرجات ملاعب لوسيل والبيت، وفي سوق واقف التاريخي، وريل ميشرب، وغيرها من الأماكن التي كان يرتادها ملايين المشجعين من مختلف أرجاء العالم، فمن حكاية صمود أبناء حيّها في الشيخ جراح بالقدس المحتلة، إلى حكاية الأسيرة الطفلة نفوذ حماد، التي لم تعش طفولتها، وحرمها الاحتلال الفاشي من كل ما يمت للطفولة، إلى الأسير أحمد مناصرة الذي كبرت طفولته في سجون الاحتلال، لتقول للعالم: “من الدوحة.. هنا فلسطين.. ونحن أبناء هذا الشعب ورُسُله، نحمل همومه وحزنه وتطلعاته أينما حللنا وارتحلنا”.
تقول منى: تلقيت دعوة من مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، للمشاركة في أمسية قصصية، بالتزامن مع المونديال العالمي على الأرض القطرية، ووجدت الفرصة مثالية ولا تعوض للتذكير بقضايا الشعب الفلسطيني، أردت أن أقول للعالم، وأنتم تتابعون مباريات المونديال، لا تنسوا أن هناك شعب محتل يجاهد من أجل حريته واستقلاله، لا تنسوا الأسرى، وتحدثوا عن نضال الشعب الفلسطيني، ولا تغفلوا جرائم الاحتلال.
توالي لـ”الشرق” بكلمات مترعة بالشجاعة والثقة بالنصر المحتم: “الصورة باتت أبلغ من كل الكلام، فعندما ازدادت الهجمة شراسة على حي الشيخ جراح، ومنزل عائلة الكرد على وجه الخصوص، أطلقتُ حملة “أنقذوا حي الشيخ جراح” التي اعتبرها الفلسطينيون، الرد الأمثل والأكثر نجاعة، للفت أنظار العالم، إلى أن هناك حي بأكمله، تنهشه معاول الهدم والتهجير، فكان أن أنقذتُ 28 منزلاً، تقطنها 28 عائلة من الهدم، وخلال المونديال ترسمتُ ذات الخطى، وسرتُ على ذات الدرب، في فضح ممارسات الاحتلال، والترويج لقضية شعبي”.
** جولة في القدس:
لقد برعت الناشطة المقدسية التي كانت قد تخرجت العام الماضي من جامعة بيرزيت بتخصص الإعلام، في توثيق اعتداءات الاحتلال على منزلها، فاقتطعت من حياتها وقتاً للقدس، وحتى في يوم تخرّجها، فقد ظلت تتابع التفاصيل الدقيقة، وكل شاردة وواردة في الحي، من خلال وسائل التواصل المختلفة، ولولا كاميرا هاتفها النقال لضاع حي الشيخ جراح بأكمله، ولعل ميّزة ما فعلته منى، أنه كان يأتي مباشرة من القلب، ولأن أهل الشيخ جراح أدرى بشعابه، فقد كانت الإضاءة على معاناة سكانه تأتي إلى العالم بلهجتها المقدسية شبه الخليلية.
تأخذنا منى في كل يوم، إلى جولة في أزقة حي الشيخ جراح، تجترح البقاء على الأرض وحول المقدسات، تارة من خلال المقاطع المصوّرة التي تبثها، وأخرى من خلال المقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة، وفي مرات كثيرة تأخذنا إلى تفاصيل الحياة اليومية في المدينة المقدسة، فتسلط الضوء على القدس بجوانبها الإنسانية الحية، وليس مجرد حجارتها ومواقعها الأثرية، بل ربطت كل هذا بواقع الناس وطقوسهم الحياتية، وتعلقهم بمدينة لا تشبهها المدائن، فهي مدينة روحانية بأسرارها وهويتها، وستبقى كذلك حتى يردّها أهلها من غربتها.
ورغم كل ما يسيل من الدم بفعل رصاص المحتل الغاشم، وما يغزو مآقي الشباب والشابات من غاز مسيل للدموع، فإن طغيان المحتل الإسرائيلي لم يحجب عن منى، حقها في إيصال قضية شعبها، إلى كل قلب في العالم، لا زال ينبض بما تبقى من نبض إنساني.
مساحة إعلانية